الطبيعة



-1-

في يوم من أيام الربيع الجميلة 

تجمعت الملائكة في الحقول بألبستها الزاهية المشكلة من ألوان قوس قزح، ...وقد تعممت هالاتها المليئة بالنور... وحملت كل منهن بين جناحيها حصتها من البذور المليئة بالحياة... لتنثرها في أعالي الجبال... والبراري والوديان ... وفي البحار والسواقي والأنهار... وفي الغابات وبين الأعشاب وعلى أغصان الأشجار... وقليل منها في البيوت المتراشقة في الأمصار 
وبينما كانت كل واحدة منهن منهمكة بواجباتها في إرشاد البذور الصغيرة إلى أبويها صاحت الملاك أنس: يا الهي لقد فقدت الأخيرة من بذوري الآدمية ... لا أعرف إلى أين توجهت
وأبويها ينتظران... وأمها قد عاودها المخاض وحان ميعاد ميلادها ؟؟؟ ... 




وهي تبحث عنها بقلق رددت: يا ألهي أين ذهبت...؟
في هذه الأثناء كانت البذرة الصغيرة تتعثر بين الأعشاب لتجد نفسها أمام نملة مسرعة تجمع قوتها فصاحت بها: ماما 
نظرت النملة إليها باستغراب وقالت: ولكن أنا لست بأمك وأنت لست من فصيلتنا ... ثم حركت قرنيها الرفيعين ورددت: لابد وأنك ابنة تلك الفراشة ... تعالي لكي أوصلك إليها
صاحت البذرة الصغيرة بالفراشة وقالت: ماما 
نظرت الفراشة إليها وهي تحرك جناحيها الملونتين بغرور وقالت: أنا لست بأمك وأنت لست من فصيلتنا لابد وأن تكوني ابنة تلك السلحفاة ... تعالي لكي أأخذك إليها 



صاحت البذرة الصغيرة في وجه السلحفاة: ماما
نظرت إليها السلحفاة وهي تغمض وتفتح عينيها بذهول وقالت: أنا لست بأمك... وأنت لست من فصيلتنا... لابد أن تكوني ابنة لتلك الضفدعة الخضراء ... تعالي لآخذك إليها ... 
صاحت البذرة الصغيرة على الضفدعة وقالت: ماما
نظرت الضفدعة إليها وهي تفرغ صدغيها من الهواء وقالت: أنا لست بأمك وأنت لست من فصيلتنا... لابد وأن



تكوني ابنة تلك السمكة الحمراء تلك تعالي لكي أحملك أليها ...
صاحت البذرة الصغيرة وقد بدا عليها التعب: ماما
تفاجأت السمكة الحمراء منها وقالت وهي تحرك زعانفها وتضرب بها الماء: أنا لست بأمك وأنت لست من فصيلتنا لابد وأن تكوني ابنة تلك 
وقبل أن تنهي السمكة الحمراء كلماتها ... كانت نسمة عابرة بقربها قد حملتها بعيدا... لتحط بها على غصن شجرة بلوط ضخمة... وما أن استفاقت من هول تلك المفاجأة القصيرة حتى وجدت نفسها في عش غراب أسود يطعم صغاره 
فرحت وقد أحست بالجوع وصاحت: ماما 
نظرت أنثى الغراب إليها وقالت أنا لست بأمك وأنت لست من فصيلتنا 




... لابد وأن تكوني ابنة ذاك الغزال ... تعالي لكي أأخذك إليه... وما أن حطت أمامه قالت وقد تهدج صوتها: ماما 
فتحت أنثى الغزال عينيها الكبيرتين متفاجئة بها وقالت: أنا لست بأمك وأنت لست من فصيلتنا ...لابد أن تكوني من فصيلة الزهور تلك، تعالي لكي أدلك عليها ... وما أن وصلت زهرة القرنفل البيضاء حاولت الصراخ بها ولم تستطع، فقد أعياها التعب، فقالت بصوت خافت يشبه الهمس: ماما
ضحكت القرنفلة البيضاء وقد أخذت بها بين بتلاتها العطرة وهي تهدأ من روعها: لقد وصلت أخيرا أين كنت كل هذه المدة؟... 
فرحت البذرة الصغيرة وقد بدت على وجهها علامات الرضا والسعادة وقالت: أنا كنت هنا بقربك ولم تشاهدينني؟...
ابتسمت القرنفلة البيضاء ثانية وهي تقول: أنا لست بأمك 


وأنت لست من فصيلتنا ولكن لا تخافي فأنت من هنا... ابنة
لواحدة من ثمر الملفوف في الحقل المجاور...أذهبي واسألي عنها... قفزت البذرة الصغيرة فرحة لتحط على إحدى ثمر الملفوف الأخضر وقد شعرت بعروقها الغضة المبللة بالندى وكأنها عروق تلف ذراع مارد ضخم... مما جعلها تصاب بالذهول وبعض من الفخر والكبرياء فصاحت بأعلى صوتها: ماما
فتحت ثمرة الملفوف إحدى أوراقها وهي فرحة وقالت: ها أنت أخيرا كنت بانتظارك 
لم تنتظر البذرة الصغيرة نهاية كلامها وبادرتها معاتبة: أنا هنا منذ الصباح...ثم أردفت بخجل: ها أنا هنا أمامك ماما...
قهقهت ثمرة الملفوف وقالت: ولكن أنا لست أمك ! ولكن كل البذور الآدمية تبدأ حياتها من هنا... ثم أضافت بشيء من الغرور ... هكذا يقولون ... يعثرون عليكم في بطون الملفوف ... ولكن لا تجزعي فالملاك أنس تنتظرك هنا ... وهي تبحث عنك ... هاهي وصلت ... 


فرحت الملاك أنس بوجودها فقالت أين كنت يا ألهي لقد قلبت الدنيا عليك ...هيا فوالديك بانتظارك وأمك على وشك أن تضع مولودها وأنت سر الخلق، وسر الحياة، وسر الوجود، لاشيء يحصل بدونك هيا... هيا... 
وقبل أن تنتقل برفقتها إلى المكان الموعود التفت الملاك انس إليها وقالت: ولكن وقبل ذلك عليك أن تتذكري الوعد الذي قطعته لي ... الوعد بان تكوني مثال الخلق الكريم،... صادقة وأمينة ومحبة للخير... وذلك طوال حياتك ... اتفقنا
أجابتها البذرة الصغيرة وهي تومىء برأسها بالإيجاب: أعدك 




تأبطت البذرة الصغيرة جناح ملاكها الحارس لتهبط برفقتها في حضن والدتها الدافئ وقد أخذتها بين ذراعيها بحنان
...من ثم بدأت تشعر بالهواء البارد يدخل -على غير عادته- رئتيها آخذة بذلك أول نفس من أنفاس الحياة وبدأت تصرخ صرخة الفرح الآدمية... وواع ... ووواااع ... ووواااع .... 
ثم غفت بعد أن ملأت معدتها الفارغة بأول وجبة حليب ساخن ؟؟؟.................. 
هكذا مثلك تماما يا لولو، هكذا كنت، وهكذا ولدت وهكذا عثرنا عليك؟ !... ردد والد لولو عليها وهو يغلق القصة المصورة القصيرة التي أعتاد أن يقرأها لها في كل مساء... 
في حين كانت لولو قد استولى عليها النعاس وقد أطبقت جفنيها وهي تمتم همهم هكذا

-2-



وصلت لولو برفقة والديها المنطقة الريفية الجميلة القريبة
من المدينة فوجدتها قد لبست حلتها الخضراء الجميلة كعادتها
في فصل الربيع، فراحت تركض فرحة وهي تلامس بساقيها
الصغيرتين العشب الأخضر الرطب فتثير من حولها المئات
من الحشرات الصغيرة الطائرة منها والنطاطة والتي
بدأت بالهروب تاركة الزهور البرية المتناثرة بينها
وقد شكلت بتموجاتها الداكنة لوحة متقنة مليئة بالألوان
تشبه تلك التي تغمس ريشتها الصغيرة بها عندما تحب أن ترسم على الأوراق البيضاء في حضانتها التي بدأت ترتادها
منذ أول العام. 
فجأة وقع نظرها على عينتين كبيرتين تنظران إليها بدهشة واستغراب
اقتربت لولو منهما متفحصة بفضول... فهي لم تشاهد مثلهما
من العيون ملقاة على إحدى الزهور دون رأس أو جسد من قبل !.
مدت إصبعها الصغير تحاول أن تتعرف إليهما باللمس أكثر فانطبقتا على بعضيهما البعض ليصبحا عينا واحدة ؟ .قبضت لولو على تلك العين الغريبة المسطحة بإصبعيها الصغيرتين فسمعت من يصيح بها: 
-أي ...أي ...أنت تؤلمينني ...اتركيني...اتركي جناحي !!!. 
استغربت لولو من ذلك الصوت وتركت العين الرقيقة لتتفاجأ بها اثنتين تصفقان وتطيران بعد إن تركتا أثارا تشبه البودرة الناعمة على إصبعيها !؟.
صاحت لولو مستغربة: 
-عيون تطير
ضحكت نبتة للورد قريبة منها وقالت: 
فراشة...تلك العيون اسمها فراشة، كانت ضيفتي تتناول من رحيق أزهاري فطورها، لقد أفزعتها...هربت منك ؟.
لولو مستغربة: 
-ولكن لها عينتين كبيرتين
نبتة الورد وهي تبتسم: 
-أنها عيون وهمية مرسومة على جناحيها الرقيقين تتخفى خلفهما حتى تخيف وتبعد عنها الطيور !.
سألتها لولو: 
تطعمينها لماذا ؟.
نبتة الورد: إنها كغيرها من الفراشات تسدي لي خدمة جليلة !.
لولو: كيف؟.
نبتة الورد: تنقل ما لدي من غبار الطلع إلى زهرات أخرى لتختلط وتلقح..
إنها وسيلتنا للملامسة والتزاوج تشبه القبلات عندكم...
وهكذا وبعد كل قبلة تنضج بذرة تعطي إذا ما زرعت نبتة وزهرة جديدة.
لولو: وأنت ما اسمك ؟ 
نبتة الورد: أنا يسمونني الأقحوان، يأخذون مني الدواء والعطور والألوان.
أجابتها لولو وقد لحظت حشرة ملونة تسعى على إحدى أوراقها: 
وهذه تطعمينها أيضا، إنها صغيرة جدا تنزلق انزلاقا لا أرى لها أرجل ؟.
الأقحوان: إنها خنفساء تعرفينها من النقاط السود المبعثرة بانتظام على
ظهرها الأملس الأحمر الذي يشبه الدرع هي تأكل عندي أيضا ولكن من حشرات المن السوداء الصغيرة المتخفية تحت أوراقي، لولو: ولكن البقع السوداء ولونها الأحمر لا يخيف كيف تتخفى عن أعدائها ؟
الأقحوان: أنها تنذرهم بلونها الصاخب لتقول لهم بأنها لا تصلح للأكل
فان هاجمها عصفور ما انقلبت على ظهرها وتظاهرت بالموت حتى يذهب عنها الخطر . !أمسكت لولو بإحدى الأوراق تقلبها فوجدت جيش من النمل
يرسم خطا طويلا قادما من الأرض نحو عش للمن فاستغربت من ذلك وقالت: والنمل أيضا ؟.
الأقحوان: النمل يا صغيرتي لا أحبه أبدا هو يأتي ليحلب المن ويحمل ما يستخرجه من بطونها من عسل إلى العش ليطعم صغاره... وهو يحميها ويربيها تحت أوراقي ولهذا فهو ليس من أصدقائي !.
لولو: هل تتألمين عندما يقضمون أوراقك ؟
ضحكت الأقحوان منها وقالت: 
-نحن النباتات لا نتألم، ليس لنا جهاز عصبي مثلكم لنحس
به ولا جهاز للهضم، ! ولكن قد نصاب بالمرض
أو نموت من الجوع أو العطش، أو بكل بساطة نختنق من قلة النفس. 
استغربت لولو منها وقالت: 
تتنفسين وتأكلين وتشربين ؟ لا أرى فماً لك فكيف تفعلين؟
قهقهت الأقحوان وقالت: 
أنا أتغذى واشرب من التربة عن طريق جذور لي مدفونة فيها ؟
لولو: غريب فمك تحت التراب ؟
الأقحوان: لا... أنا لا فم لي... أنا لي جذور تشبه القصبة الرفيعة التي
تشربين العصير بها، واطرح عن طريق أوراقي ما يزيد من الماء
ولهذا تجدينني غضة وطرية ونضرة وأزهاري جميلة تحوي كل الألوان...
ومنها تعرف الإنسان عليها وأخذها ليخط بها ويرسم لوحاته بإتقان...
ولون بها الشفا والخدود لتصبح كل فتاة رقيقة مثلك أخاذة للجمال... وصنع
من أريجنا العطر ليفتن بها الروح ويقرب القلوب ويطهر الأبدان.
مدت لولو يدها الصغيرة تتفحص أوراقها الخضراء وزهورها الصفراء
الجميلة ثم قبضت عليها براحة كفها وهزتهابرفق ثم قالت: -لا تقولي بأنك تتنفسين كما تتكلمين معي وتتفصحين ؟ !.
أخذت نبتة الأقحوان تتمايل بدلال وهي تضحك وتقول: 
أنت تدغدغينني وعلى ما يبدو لم تصدقينني... ما رأيك إذا قلت لك بأنك بحياتك لي تدينين ؟
تفاجأت لولو بها وبغرورها بعد أن أطلقت سراحها وقالت: 

كيف ؟ ! بهذا أيضا تتدخلين ؟.
الأقحوان بفخر: لما لا فانا التي اصنع الأكسجين وأنظف جو المدينة المقيت المليء بالمازوت والكربون لأصنع به غذائي وأعطي بدلا منه الهواء النظيف التي تتنفسين.
لولو وقد شعرت بالغيرة: 
وان قطفتك ولوالدتي هديتك فماذا تفعلين ؟
الأقحوان بشيء من الزهو: 
تكوني قد أكملت عطائي وزينت المائدة بزهوري..
فنحن نطعم ونفرح وفي كل يوم نعطي الآلاف منا دون أن نكل أو نمل أو نستكين.وما إن همت لولو بقطاف الأقحوان حتى وجدت نفسها بين ذراعي والدها وهو يصيح بها: 
أين ذهبت تعالي لكي تتناولي فطورك...
وهو يطبطب على ظهرها برفق: هيا ...هيا
سرت لولو وقد وجدت المائدة جاهزة تتوسطها كأس فيها ماء وبعض من أزهار الأقحوان فقالت وهي تمسك صحنها المزخرف:
فراشة انظر بابا هذه فراشة... ثم أشارت
إلى الناحية الثانية منه وقالت: خنفساء هذه خنفساء ماما أليس كذلك ؟...
وتلك أزهار الأقحوان جميلة هي ورائحتها عطرة ويوجد منها العديد من الألوان.
تفاجأت والدة لولو بها وقد تعرفت على الرسوم وقالت: 
من علمك كل هذا ؟
نظرت لولو إلى أزهار الأقحوان فرأتها تبتسم
وتشير إليها بان تحفظ سرها... سر الحياة...
سر الوجود...إذا كان لسرهم في قلبها من مكان... فرددت ببراءة: 
ماما هذه فراشة وهذه أقحوان

-3-

العاصفة
غطت السحب السماء وخيم على المكان ظلام حجب الشمس التي كانت منذ لحظات ساطعة.نظرت أم سامي إلي السماء, ثم رفعت يديها إلى فوق وظلت تبتهل, خاف ابنها الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره مما رآه حوله ,تعلق برداءتها وسكن كل شئ. قالت زينب لابنها بصوتها الهادئ المكسور:"لا تخف, أنها السحب التي ستا تينا بالمطر النافع, سينبت الزرع وتورق الأشجاروتمتلئ المراجل ويفرح الفلاحون ." 
ظلت تهمس في إذنيه وكان الحديث يهمه, هي تريد أن تهرب من الصمت الذي غطى البيت بأكمله ومن القلق الذي بدا يتسرب إليها. 
لحظات قليلة كانت كافية لتجعل سامي يغط في النوم, دثرته بغطائه الوثير, ثم نظرت إلي الساعة الحائطية أمامها تمتمت. الخوف بلل وجهها بعرق بارد ندي,الريح القوية بدأت تعصف, تحدث اصواتا غريبة في شقوق الأبواب و النوافذ, يحولها الخوف إلي فرقعة و عويل.لم تخف زينب خوفها تلك الليلة, تخيلت أمواج البحر تعلو كالجبال, فيتناثر الزبد كتلا كتلا, يحيل إليها أن المياه تحيط نها من كل جانب, قارب زوجها الصياد تتقاذفه الاموج, رأت زوجها يصارع تلك الأمواج وحيدا, فيطفو مرة وبغوص أخري
.